نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

قال : دخل الأعز أبو الفتوح بن قلاقس على بلال بن مدافع بن بلال الفزاري ، فعرض عليه سيفا قد نظم الفرند في صفحته جوهره ، وأذكى الدهر ناره وجمّد نهره ، وألبسه من سلخ الأفاعي رداء وجسّمه ردى (١) ، لا يمنع من برقه بدر مجنّ ولا ثريّا مغفر ، ولا يسلم من حدّه من ثبت ولا ينجو لطوله من فرّ ، فهو يبكي للنفاق ويضحك ، ويرعد للغيظ ويفتك ، وأمره بصفة شأنه ، فقال على لسانه : [الوافر]

أروق كما أروع فإن تصفني

فإني رائق الصفحات رائع (٢)

تدافع بي خطوب الدهر حتى

نقلت إلى بلال عن مدافع

وقال أيضا فيه : [الخفيف]

ربّ يوم له من النّقع سحب

مالها غير سائل الدم ودق (٣)

قد جلته يمنى بلال بحدّي

فكأنّي في راحة الشمس برق

وقال أيضا فيه : [الكامل]

أنا في الكريهة كالشّهاب الساطع

من صفحة تبدو وحدّ قاطع

فكأنما استمليت تلك وهذه

من وصف كفّ بلال بن مدافع (٤)

وقال أيضا فيه : [الكامل]

انظر لمطّرد المياه بصفحتي

ولنار حدّي كم بها من صالي

قد عاد شدّي في المضايق شيمتي

كبلال بن مدافع بن بلال (٥)

وسأله صاحب له وصف مشط عاج قد أشبه الثريّا شكلا ولونا ، وشقّ ليلا من الشّعر جونا ، فقال : [الكامل]

ومتيّم بالآبنوس وجسمه

عاج ومن أدهانه شرفاته (٦)

كتمت دياجي الشّعر منه بدرها

فوشت به للعين عيّوقاته (٧)

__________________

(١) في ب : «وجسمه ردّى أو داء».

(٢) في ه : «أروق كما أروع وإن تصفني».

(٣) في ه : «ماله غير فائر الدم ودق». وقد أثبتنا ما في أ، ب.

(٤) في ب : «من وصف كف بلال بن مدافع».

(٥) في ب : «كبلال بن مدافع بن بلال».

(٦) الآبنوس : شجر خشبه أسود صلب.

(٧) العيّوق : نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن يتلو الثريا ولا يتقدمها.

٨١

وقال فيه : [الطويل]

وأبيض ليل الآبنوس إذا سرى

تمزّق عن صبح من العاج باهر

وإن غاص في بحر الشعور رأيته

تبشّرنا أطرافه بالجواهر

وقال فيه : [السريع]

ومشرق يشبه ضوء الضحى

حسنا ويسري في الدّجى الفاحم (١)

وكلّما قلّب في لمّة

أضحكها عن ثغره الباسم

وجلس بمصر في دار الأنماط يوما مع جماعة ، فمرّت بهم امرأة تعرف بابنة أمين الملك ، وهي شمس تحت سحاب النّقاب ، وغصن في أوراق الشباب ، فحدّقوا إليها تحديق الرقيب إلى الحبيب ، والمريض إلى الطبيب ، فجعلت تتلفّت تلفّت الظبي المذعور ، أفرقه القانص فهرب (٢) ، وتتثنّى تثني الغصن الممطور عانقه النسيم فاضطرب ، فسألوه العمل في وصفها ، فقال : هذا يصلح أن يعكس فيه قول العطار الأزدي القيرواني : [الكامل]

أعرضن لمّا أن عرضن ، فإن يكن

حذرا فأين تلفّت الغزلان

ثم صنع : [المتقارب]

لها ناظر في ذرا ناضر

كما ركّب السنّ فوق القناة

لوت حين ولّت لنا جيدها

فأيّ حياة بدت من وفاة

كما ذعر الظبي من قانص

فمرّ وكرّر في الالتفات

ثم صنع أيضا : [الكامل]

ولطيفة الألفاظ لكن قلبها

لم أشك منه لوعة إلّا عتا (٣)

كملت محاسنها فودّ البدر أن

يحظى ببعض صفاتها أو ينعتا

قد قلت لمّا أعرضت وتعرضت

يا مؤيسا يا مطمعا قل لي متى

قالت أنا الظبي الغرير وإنما

ولّى وأوجس نبوة فتلفّتا

قال علي بن ظافر : وحضر يوما عند بني خليف بظاهر الإسكندرية في قصر رسا بناؤه

__________________

(١) في ب ، ه : «ومشرق يشبه لون الضحى».

(٢) أفرقه : أخافه. والقانص : الصياد.

(٣) عتا : استكبر وجاوز الحد.

٨٢

وسما ، وكاد يمزّق بمزاحمته أثواب السما ، قد ارتدى جلابيب السحائب ، ولاث عمائم الغمائم (١) ، وابتسمت ثنايا شرفاته ، واتسمت بالحسن حنايا غرفاته ، وأشرف على سائر نواحي الدنيا وأقطارها ، وحبته الرياض بما ائتمنتها عليه السّحب من ودائع أمطارها ، والرمل بفنائه قد نثر تبره في زبرجد كرومه (٢) ، والجوّ قد بعث بذخائر الطيب لطيمة نسيمه ، والنخل قد أظهرت جواهرها ، ونشرت غدائرها ، والطّلّ ينثر لؤلؤه في مسارب النسيم ومساحبه ، والبحر يرعد غيظا من عبث الرياح به ، فسأله بعض الحضور أن يصف ذلك الموضع الذي تمّت محاسنه ، وغبط به ساكنه ، فجاشت لذلك لجج بحره ، وألقت إليه جواهره لترصيع لبّة ذلك القصر ونحره ، فقال : [الوافر]

قصر بمدرجة النسيم تحدّثت

فيه الرياض بسرّها المستور

خفض الخورنق والسّدير سموّه

وثنى قصور الروم ذات قصور (٣)

لاث الغمام عمامة مسكيّة

وأقام في أرض من الكافور

غنّى الربيع به محاسن وصفه

فافترّ عن نور يروق ونور

فالدّوح يسحب حلّة من سندس

تزهى بلؤلؤ طلّها المنثور

والنخل كالغيد الحسان تقرّطت

بسبائك المنظوم والمنثور (٤)

والرمل في حبك النسيم كأنما

أبدى غصون سوالف المذعور

والبحر يرعد متنه فكأنّه

درع تشنّ بمعطفي مقرور

وكأننا والقصر يجمع شملنا

في الأفق بين كواكب وبدور

وكذاك دهر بني خليف لم يزل

يثني المعاطف في حبير حبور

ثم قال ابن ظافر : وأخبرني الفقيه أبو الحسن علي بن الطوسي المعروف بابن السيوري الإسكندري النحوي بما هذا معناه ، قال : كنت مع الأعز بن قلاقس في جماعة ، فمرّ بنا أبو الفضائل بن فتوح المعروف بالمصري ، وهو راجع من المكتب ، ومعه دواته ، وهو في تلك الأيام قرّة العين ظرفا وجمالا ، وراحة القلب قربا ووصالا ، كلّ عين إلى وجهه محدّقة ، ولمشهد خدّيه بخلوق الخجل مخلّقة ، فاقترحنا عليه أن يتغزّل فيه ، فصنع بديها : [مجزوء الكامل]

__________________

(١) لاث العمامة على رأسه : لفها ، عصبها.

(٢) في ه «نثر تبره وزبرجد كرومه».

(٣) قصور الروم : جمع قصر ، وذات قصور : أي ذات تقصير عنه.

(٤) تقرّطت : وضعت القرط ، وهو الحلي الذي يوضع في الأذنين.

٨٣

علّقته متعلّقا

بالخطّ معتكفا عليه

حمل الدواة ولا دوا

ء لعاشق يرجى لديه

فدماء حبات القلو

ب تلوح صبغا في يديه

لم أدر ما أشكو إلي

ه أهجره أم مقلتيه

والحبّ يخرسني على

أنّي ألكّع سيبويه

ما لي إذا أبصرته

شغل سوى نظري إليه (١)

وقد آن وقت الرجعة إلى كلام الأندلسيين ، الذي حلا ، وأبعدنا عنه بما مرّ النّجعة فنقول:

ذكر الفتح في قلائد العقيان ، كما قال ابن ظافر ، ما معناه (٢) : أخبرني الوزير أبو عامر بن بشتغير (٣) أنه حضر مجلس القائد أبي عيسى بن لبّون في يوم سفرت فيه أوجه المسرّات ، ونامت عنه أعين المضرّات ، وأظهرت سقاته غصونا تحمل بدورا ، وتطوف من المدام بنار مازجت من الماء نورا ، وشموس الكاسات تطلع في أكفّها كالورد في السوسان ، وتغرب بين أقاحي نجوم الثغور فتذبل نرجس الأجفان ، وعنده الوزير أبو الحسن بن الحاج اللورقي ، وهو يومئذ قد بذل الجهد ، في التحلّي بالزهد ، فأمر القائد بعض السقاة أن يعرض عليه ذهب كاسه ، ويحييه بزبرجد آسه ، ويغازله بطرفه ، ويميل عليه بعطفه ، ففعل ذلك عجلا ، فأنشد أبو الحسن مرتجلا : [الكامل]

ومهفهف مزج الفتور بشدّة

وأقام بين تبذّل وتمنّع

يثنيه من فعل المدامة والصّبا

سكران سكر طبيعة وتطبّع

أوما إليّ بكأسه فكففتها

ورنا فشفّعها بلحظ مطمع (٤)

والله لولا أن يقال هوى الهوى

منه بفضل عزيمة وتورّع

لأخذت في تلك السبيل بمأخذي

فيما مضى ونزعت فيها منزعي

وحكى الحميدي أنّ عبد الملك بن إدريس الجزيري كان ليلة بين يدي الحاجب بن أبي عامر والقمر يبدو تارة ، ويخفيه السحاب تارة ، فقال بديها : [الوافر]

__________________

(١) مالي : ما نافية ، وأراد ليس من شغل سوى النظر إليه.

(٢) انظر بدائع البداءة ج ٢ ص ٨٧ وقلائد العقيان ص ١٣٩.

(٣) في أ«يشتغير».

(٤) أوما : أشار وأصله أومأ بالهمز.

٨٤

أرى بدر السماء يلوح حينا

فيبدو ثم يلتحف السّحابا (١)

وذاك لأنه لمّا تبدّى

وأبصر وجهك استحيا فغابا

مقال لو نمى عنّي إليه

لراجعني بتصديقي جوابا

وكان صاعد اللغوي (٢) صاحب كتاب «القصوص» ـ وقد تكرّر ذكره في هذا الكتاب ـ كثيرا ما يمدح بلاد العراق بمجلس المنصور بن أبي عامر ، ويصفها ، ويقرظها ، فكتب الوزير أبو مروان عبد الملك بن شهيد والد الوزير أبي عامر أحمد بن شهيد صاحب الغرائب ، وقد تقدّم بعض كلامه قريبا ، إلى المنصور في يوم برد ـ وكان أخصّ وزرائه به ـ بهذه الأبيات : [المنسرح]

أما ترى برد يومنا هذا

صيّرنا للكمون أفذاذا

قد فطرت صحّة الكبود به

حتى لكادت تعود أفلاذا

فادع بنا للشّمول مصطليا

نغذّ سيرا إليك إغذاذا (٣)

وادع المسمّى بها وصاحبه

تدع نبيلا وتدع أستاذا

ولا تبالي أبا العلاء زها

بخمر قطربّل وكلواذا

ما دام من أرملاط مشربنا

دع دير عمّي وطيز ناباذا

وكان المنصور قد عزم ذلك اليوم على الانفراد بالحرم ، فأمر بإحضار من جرى رسمه من الوزراء والندماء ، وأحضر ابن شهيد في محفّة لنقرس (٤) كان يعتاده ، وأخذوا في شأنهم ، فمرّ لهم يوم لم يشهدوا مثله ، ووقت لم يعهدوا نظيره ، وطما الطرب وسما بهم ، حتى تهايج القوم ورقصوا ، وجعلوا يرقصون بالنوبة ، حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد ، فأقامه الوزير أبو عبد الله بن عباس ، فجعل يرقص وهو متوكئ عليه ، ويرتجل ويومئ إلى المنصور ، وقد غلب عليه السكر (٥) : [الرمل]

هاك شيخا قاده عذر لكا

قام في رقصته مستهلكا

لم يطق يرقصها مستثبتا

فانثنى يرقصها مستمسكا

__________________

(١) يلتحف السحاب : يتخذها لحافا ؛ غطاء.

(٢) انظر الذخيرة ٤ / ١ : ١٦.

(٣) نغذّ السير : نسرع.

(٤) النقرس : مرض مؤلم يصيب مفاصل قدم الرجل وخصوصا إبهامها.

(٥) في ه : «وقد غلبه السكر».

٨٥

عاقه عن هزّها منفردا

نقرس أخنى عليه فاتّكا

من وزير فيهم رقّاصة

قام للسّكر يناغي ملكا

أنا لو كنت كما تعرفني

قمت إجلالا على رأسي لكا

قهقه الإبريق منّي ضاحكا

ورأى رعشة رجلي فبكى

قال ابن ظافر : وهذه قطعة مطبوعة ، وطرفها الأخير واسطتها ، وكان حاضرهم ذلك اليوم رجل بغدادي يعرف بالفكيك (١) ، حسن النادرة سريعها ، وكان ابن شهيد استحضره إلى المنصور فاستطبعه ، فلما رأى ابن شهيد يرقص قائما مع ألم المرض الذي كان يمنعه من الحركة قال : لله درّك يا وزير! ترقص بالقائمة ، وتصلّي بالقاعدة ، فضحك المنصور ، وأمر لابن شهيد بمال جزيل ، ولسائر الجماعة ، وللبغدادي.

وقال ابن بسام (٢) : حدّث أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر بن عثمان المصحفي قال: دخلت يوما على أبي عامر بن شهيد ، وقد ابتدأت علّته التي مات بها ، فأنس بي ، وجرى الحديث إلى أن شكوت له تجنّي بعض أصحابي (٣) عليّ ، ونفاره عنّي ، فقال لي : سأسعى في إصلاح ذات البين ، فخرجت عنه ، واتّفق لقائي لذلك المتجني عليّ مع بعض أصحابي وأعزّهم عليّ ، فلمّا رآني ذلك الصديق مولّيا عنه أنكر عليه ، وسأله عن السبب الموجب ، فأخبره ، وزادا في مشيهما حتى لحقا بي ، وعزم عليّ في مكالمة صاحبي ، وتعاتبنا عتابا أرقّ من الهواء ، وأشهى من الماء على الظّماء ، حتى جئنا دار أبي عامر ، فلما رآنا جميعا ضحك وقال : من كان الذي تولّى إصلاح ما كنّا سررنا بفساده؟ قلنا : قد كان ما كان ، فأطرق قليلا ثم أنشد:[المنسرح]

من لا أسمّي ولا أبوح به

أصلح بيني وبين من أهوى

أرسلت من كابد الهوى فدرى

كيف يداوي مواقع البلوى

ولي حقوق في الحبّ ثابتة

لكنّ إلفي يعدّها دعوى

وقد ذكرنا في هذا الكتاب من غرائب أبي عامر بن شهيد في مواضع متفرّقة الغرائب ، وقدّمنا في الباب الرابع حكايته مع المرأة الداخلة في رمضان لجامع قرطبة وحكيناها هناك بلفظ «المطمح» فلتراجع.

__________________

(١) انظر ص (٩٣)! من هذا الجزء.

(٢) انظر بدائع البداءة ج ٢ ص ١٠٦.

(٣) في ه ، والبدائع «مع بعض إخواني».

٨٦

وعبّر ابن ظافر عن معناها بقوله : إنّ أبا عامر كان مع جماعة من أصحابه بجامع قرطبة في ليلة السابع والعشرين من رمضان ، فمرّت امرأة به من بنات أجلّاء قرطبة ، قد كملت حسنا وظرفا ، ومعها طفل يتبعها كالظبية تستتبع خشفا ، (١) وقد حفّت بها الجواري ، كالبدر حفّ بالدراري ، فحين رأت تلك الجماعة ، المعروفة بالخلاعة ، وقد رمقوا ذلك الظبي بعيون أسود رأت فريسة (٢) ، ارتاعت وتخوّفت أن تخطف منها (٣) تلك الدّرّة النفيسة ، فاستدنت إليها خشفها ، وألزمته عطفها ، فارتجل ابن شهيد قائلا :

وناظرة تحت طيّ القناع إلخ

ومرّت في الباب الرابع هذه الأبيات.

وقال الرئيس أبو الحسن عبد الرحمن بن راشد الراشدي (٤) : لمّا نعيت أبا عامر بن شهيد إلى أبي عبد الله بن الخياط (٥) الشاعر ، وكان قد عرف ما بينهما من المنافسة ، فبكى وأنشدني لنفسه بديهة : [السريع]

لمّا نعى الناعي أبا عامر

أيقنت أني لست بالصابر

أودى فتى الظّرف وترب الندى

وسيّد الأول والآخر (٦)

وقال ابن بسّام : اصطبح المعتصم بن صمادح يوما مع ندمائه ، فأبرز لهم وصيفة مهدوية متصرفة في أنواع اللعب المطرب من الدك ، وحضر أيضا هناك لاعب مصري ساحر فكان لعبه حسنا ، فارتجل أبو عبد الله بن الحداد : [المتقارب]

كذا فلتلح قمرا زاهرا

وتجني الهوى ناظرا ناظرا

وسيبك سيب ندى مغدق

أقام لنا هاميا هامرا (٧)

وإنّ ليومك ذا رونقا

منيرا كنور الضّحى باهرا

__________________

(١) الخشف : ولد الغزال.

(٢) في أ : «بعيون الأسود رأت الفريس».

(٣) منها : سقطت من بعض النسخ ، وقد أثبتناها من أ، ب.

(٤) انظر بدائع البداءة ج ٢ ص ١٠٩.

(٥) في ب : «أبي عبد الله الحناط».

(٦) ترب الندى : أخو الكرم.

(٧) السيب : العطاء.

٨٧

صباح اصطباح بإسفاره

لحظنا محيّا العلا سافرا

وأطلعت فيه نجوم الكؤوس

فما زال كوكبها زاهرا

وأسمعتنا لاحنا فاتنا

وأحضرتنا لاعبا ساحرا

يرفرف فوق رؤوس القيان

فننظر ما يذهل الناظرا

ويحفظها ذيل سرباله

فننظر طالعها غائرا

فظاهرها ينثني باطنا

وباطنها ينثني ظاهرا

وثنّاه ثان لألعابه

دقائق تثني الحجا حائرا (١)

وفي سورة الراح من سحره

خواطر دلّهت الخاطرا (٢)

إذا ورد اللحظ أثناءها

فما الوهم عن وردها صادرا

ومن حسن دهرك إبداعه

فما انفكّ عارضها ماطرا

وسعدك يجتلب المغربات

فيجعل غائبها حاضرا

قال : وحضر الأديب أحمد بن الشقاق عند القائد بن درّي (٣) بجيان ، هو وأبو زيد بن مقانا الأشبوني ، فأحضر لهما (٤) عنبا أسود مغطّى بورق أخضر ، فارتجل ابن الشقاق : [الكامل]

عنب تطلّع من حشا ورق لنا

صبغت غلائل جلده بالإثمد (٥)

فكأنه من بينهنّ كواكب

كسفت فلاحت في سماء زبرجد

قال (٦) : وحضر ابن مرزقان ليلة عند ذي النون بن خلدون ، وبحضرته وصيفة تحمل شمعة ، فاستحسنها ابن مرزقان ، فقال بديها : [السريع]

يا شمعة تحملها أخرى

كأنها شمس علت بدرا

امتحنت إحداكما مهجتي

بمثل ما تمتحن الأخرى

قال : دخل الأديب غانم يوما على باديس صاحب غرناطة ، فوسّع له على ضيق كان في المجلس ، فقال بديها : [البسيط]

__________________

(١) في ب : «رقائق تثني الحجى حائرا».

(٢) السّورة ـ بفتح السين وسكون الواو : الحدة والقوة. وسورة الخمر : شدتها. والراح : الخمر.

(٣) في ج : «القائد ابن دريد».

(٤) في ه : «فأحضرهما».

(٥) في ه : «عنب تطلع من حشى ورق له». والإثمد : حجر يكتحل به ، وهو أسود إلى حمرة.

(٦) انظر بدائع البداءة ج ٢ ص ١٢٣.

٨٨

صيّر فؤادك للمحبوب منزلة

سمّ الخياط مجال للمحبّين

ولا تسامح بغيضا في معاشرة

فقلّما تسع الدنيا بغيضين

وأخذه من قول الخليل «ما تضايق سمّ الخياط بمتحابّين ، ولا اتّسعت الدنيا لمتباغضين»(١).

وكان الخليل على نمرقة صغيرة ، والمجلس متضايق ، فدخل عليه بعض أصحابه ، فرحّب به وأجلسه معه على النمرقة ، فقال له الرجل : إنها لا تسعنا ، فقال ما ذكر.

وقال ابن بسام أيضا : أمر الحاجب المنذر بن يحيى التّجيبي ، صاحب سرقسطة ، بعرض بعض الجند في بعض الأيام ، ورئيسهم مملوك له رومي يقال له خيار في نهاية الجمال ، فجعل ينفخ في القرن ليجتمع أصحابه على عادة لهم في ذلك ، فقال ابن هند الداني (٢) فيه ارتجالا : [الطويل]

أعن بابل أجفان عينيك تنفث

ومن قوم موسى أنت للعهد تنكث (٣)

أفي الحقّ أن تحكي سرافيل نافخا

وأمكث في رمس الصّدود وألبث

عساك ، نبيّ الحسن ، تأتي بآية

فتنفخ في ميت الصّدود فيبعث

قال : وكان بقرطبة غلام وسيم ، فمرّ عليه ابن فرج الجيّاني ، ومعه صاحب له ، فقال صاحبه : إنه لصبيح لو لا صفرة فيه ، فقال ابن فرج ارتجالا : [البسيط]

قالوا : به صفرة عابت محاسنه

فقلت : ما ذاك من عيب به نزلا

عيناه تطلب في أوتار من قتلت

فلست تلقاه إلّا خائفا وجلا

قال : وكان يوما مع لمّة من أهل الأدب في مجلس أنس ، فاحتاج رب المنزل إلى دينار ، فوجّه إلى السوق ، فدخل به عليهم غلام من الصيارف في نهاية الجمال ، فرمى بالدينار إليهم من فيه تماجنا ، فقال ابن فرج : [الكامل]

أبصرت دينارا بكفّ مهفهف

يزهى به من كثرة الإعجاب

أوما به من فيه ثم رمى به

فكأنه بدر رمى بشهاب (٤)

قال (٥) : وخرج الأديب أبو الحسن بن حصن الإشبيلي إلى وادي قرطبة في نزهة ، فتذكّر إشبيلية ، فقال بديها : [المتقارب]

__________________

(١) في ه : «بمتباغضين».

(٢) في ب : «ابن هندو».

(٣) تنفث : تسحر.

(٤) أوما : أشار وأصله أومأ ، فخفف الهمز.

(٥) انظر بدائع البداءة ج ٢ ص ١٢٤.

٨٩

ذكرتك يا حمص ذكرى هوى

أمات الحسود وتعنيته (١)

كأنك والشمس عند الغروب

عروس من الحسن منحوته

غدا النهر عقدك والطود تاج

ك والشمس أعلاه ياقوته

انتهى :

وعبّر بعضهم ، وهو صاحب «بدائع البداءة» (٢) عن بعض حكايات صاحب القلائد بما يقاربها في المعنى ، فقال : إن المستعين بن هود ملك سرقسطة والثغور ركب نهر سرقسطة يوما لتفقّد بعض معاقله ، المنتظمة بجيد ساحله ، وهو نهر رقّ ماؤه وراق ، وأزرى (٣) على نيل مصر ودجلة العراق ، قد اكتنفته البساتين من جانبيه ، وألقت ظلالها عليه ، فما تكاد عين الشمس أن تنظر إليه ، هذا على اتّساع عرضه ، وبعد سطح مائه من أرضه ، وقد توسّط زورقه زوارق حاشيته توسّط البدر للهالة ، وأحاطت به إحاطة الطّفاوة بالغزالة (٤) ، وقد أعدّوا من مكايد الصيد ما استخرج ذخائر الماء ، وأخاف حتى حوت السماء ، وأهلّة الهالات (٥) طالعة من الموج في سحاب ، وقانصة من بنات الماء (٦) كلّ طائرة كالشهاب ، فلا ترى إلّا صيودا كقصد الصوارم ، وقدود اللهازم (٧) ، ومعاصم الأبكار النواعم ، فقال الوزير أبو الفضل بن حسداي والطرب استهواه (٨) ، وبديع ذلك المرأى قد استرقّ هواه : [البسيط]

لله يوم أنيق واضح الغرر

مفضّض مذهب الآصال والبكر

كأنّما الدّهر لمّا ساء أعتبنا

فيه بعتبى فأبدى صفح معتذر

نسير في زورق حفّ السرور به

من جانبيه بمنظوم ومنتثر

مدّ الشراع به قدّا على ملك

بذ الأوائل في أيامه الأخر (٩)

هو الإمام الهمام المستعين حوى

علياء مؤتمن في هدي مقتدر

__________________

(١) حمص : هي إشبيلية ، وقد سماها الذين دخلوا الأندلس من العرب حمص كعادتهم في تسمية بلاد الأندلس.

(٢) بدائع البداءة ج ٢ ص ١٢٤.

(٣) أزرى عليه : عابه وازدراه.

(٤) الغزالة : الشمس ، والطفاوة ـ بضم الطاء ـ دارتها.

(٥) في ه : «وأهله الأهلات».

(٦) في ه : «نبات الماء».

(٧) اللهاذم : جمع لهذم ، وهو القاطع من السيوف.

(٨) في ب : «قد استهواه».

(٩) بذ : غلب.

٩٠

تحوي السفينة منه آية عجبا

بحر تجمّع حتى صار في نهر

تثار من قعره النّينان مصعدة

صيدا كما ظفر الغوّاص بالدّرر (١)

وللندامى به عبّ ومرتشف

كالرّيق يعذب في ورد وفي صدر

والشّرب في ودّ مولى خلقه زهر

يذكو وبهجته أبهى من القمر

ثم قال ما معناه : وقوله «نينان» غير معروف ، فإنّ نونا لم يجيء جمعها على نينان ، وقد كان سيبويه لحّن بشار بن برد في قوله في صفة السفينة : [الطويل]

تلاعب نينان البحور وربّما

رأيت نفوس القوم من جريها تجري

فغيّره بشار ب «تيار البحور» وقد قال أبو الطيب يصف خيلا : [طويل]

فهنّ مع السّيدان في البرّ عسّل

وهنّ مع النّينان في البحر عوّم (٢)

انتهى.

والمستعين بن هود هو أحمد بن المؤتمن على أمر الله يوسف بن المقتدر بالله أحمد بن المستضيء بالله سليمان بن هود ، الجذامي ، رحم الله تعالى الجميع!.

وعبر المذكور عن قضيّة ابن وهبون في هلال شوال بما نصّه (٣) : خرج ابن وهبون يوما لنظر هلال شوال ، وأبو بكر ابن القبطرنة الوزير يسايره ، وهو يومئذ غلام يخجل البدر ، ويذوي الغصن النّضر ، وصفحته لم يسطرها العذار بأنقاسه (٤) ، ووردة خدّه لم يسترها الشّعر بآسه ، فارتجل عبد الجليل : [الخفيف]

يا هلال استتر بوجهك عنّي

إنّ مولاك قابض بشمالي

هبك تحكي سناه خدّا بخدّ

قم فجئني لقدّه بمثال

وقد ذكرنا هذه الحكاية في غير هذا الموضع بلفظ الفتح في «القلائد» ولكنّا أعدناها هنا لتعبير صاحب «البدائع» عنها محاكيا لطريقته.

وذكر ابن بسّام أن الوزير أبا عبد الله بن أبي الخصال وقف بباب بعض القضاة ، واستأذن عليه ، فحجب عنه ، فكتب إليه بديها : [البسيط]

__________________

(١) النينان : جمع نون ، وهو الحوت.

(٢) السيدان : جمع سيد ، وهو الذئب. وعسّل : مضطربة.

(٣) انظر بدائع البداءة ج ٢ ص ١٢٨.

(٤) الأنقاس : جمع نقس ، وهو الحبر.

٩١

جئناك للحاجة الممطول صاحبها

وأنت تنعم والإخوان في بوس

وقد وقفنا طويلا عند بابكم

ثم انصرفنا على رأي ابن عبدوس

أشار به إلى قول الوزير أبي عامر بن عبدوس : [مجزوء الوافر]

لنا قاض له خلق

أقلّ ذميمه النّزق

إذا جئناه يحجبنا

فنلعنه ونفترق

وهو تمليح مليح ، سامح الله تعالى الجميع!.

وقال أبو جعفر الكاتب القرطبي الربضي (١) : [الكامل]

وأبي المدامة ما أريد بشربها

صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي

لم يبق من عصر الشباب وطيبه

شيء كعهدي لم يحل إلّا هي

إن كنت أشربها لغير وفائها

فتركتها للناس لا لله

وبعضهم ينسبها لأبي القاسم عامر بن هشام ، والصواب ـ كما قال ابن الأبار ـ الأوّل.

وقال أبو جعفر المذكور في فوارة رخام كلّفه وصفها والي قرطبة (٢) : [المنسرح]

ما شغل الطّرف مثل فائرة

تمجّ صرف الحياة من فيها (٣)

إشرب بها والحباب في جذل

يظهره حسنها ويخفيها (٤)

كاد من رقّة تضمّنها

تخطبها العين إذ توافيها

كأنها درّة منعّمة

زهراء قد ذاب نصفها فيها

ومن شعره أيضا : [مجزوء الكامل]

ضحك المشيب برأسه

فبكى بأعين كاسه

رجل تخوّنه الزّما

ن ببؤسه وبباسه

فجرى على غلوائه

طلق الجموح بناسه

أخذا بأوفر حظّه

لرجائه من ياسه

__________________

(١) بدائع البداءة ج ٢ ص ٢٢٨.

(٢) انظر الوافي ج ٧ ص ٢٤.

(٣) مج الماء من فيه : قذفه ، رمى به.

(٤) الحباب ، بفتح الحاء ـ الفقاقيع التي تظهر على وجه الماء.

٩٢

وقال أحد بني القبطرنة الوزراء : [المتقارب]

ذكرت سليمى ونار الوغى

بقلبي كساعة فارقتها

وأبصرت قدّ القنا شبهها

وقد ملن نحوي فعانقتها

وهذا معنى بديع ما أراه سبق به.

وقال أبو الحسن بن الغليظ المالقي : قلت يوما للأديب أبي عبد الله بن السراج المالقي ، ونحن على خرير (١) ماء : أجز : [الطويل]

شربنا على ماء كأنّ خريره

فقال مبادرا :

بكاء محبّ بان عنه حبيب (٢)

فمن كان مشغوفا كئيبا بإلفه

فإني مشغوف به وكئيب

وكتب أبو بكر البلنسي إلى الأديب أبي بحر صفوان بن إدريس هذين البيتين يستجيزه القسيم الأخير منهما : [الطويل]

خليلي أبا بحر وما قرقف اللّمى

بأعذب من قولي خليلي أبا بحر (٣)

أجز غير مأمور قسيما نظمته

تأمّل على مجرى المياه حلى الزّهر (٤)

فأجازه : [الطويل]

تأمّل على مجرى المياه حلى الزّهر

كعهدك بالخضراء والأنجم الزّهر

وقد ضحكت للياسمين مباسم

سرورا بآداب الوزير أبي بكر

وأصغت من الآس النضير مسامع

لتسمع ما يتلوه من سور الشعر

وقال ابن خفاجة : [الطويل]

وما الأنس إلّا في مجاج زجاجة

ولا العيش إلّا في صرير سرير (٥)

__________________

(١) في ب : «ونحن على جرية الماء».

(٢) بان الحبيب : بعد.

(٣) القرقف : الخمر.

(٤) في ب ، ه : «تأمل على نحر المياه حلى الزهر».

(٥) فجاج العنب : ما سال من عصيره ، وهو المقصود.

٩٣

وإني وإن جئت المشيب لمولع

بطرّة ظلّ فوق وجه غدير

وقال ابن خفاجة أيضا (١) : [السريع]

وأسود يسبح في لجّة

لا تكتم الحصباء غدرانها

كأنها في شكلها مقلة

وذلك الأسود إنسانها (٢)

وكتب الوزير الشهير أبو الوليد بن زيدون إلى الوزير أبي عبد الله بن عبد العزيز أثر صدوره عن بلنسية (٣) : [مجزوء الكامل]

راحت فصحّ بها السقيم

ريح معطّرة النسيم

مقبولة هبّت قبو

لا فهي تعبق في الشّميم

أفضيض مسك أم بلن

سية لريّاها نميم

إيه أبا عبد الإل

ه نداء مغلوب العزيم

إن عيل صبري من فرا

قك فالعذاب به أليم (٤)

أو أتبعتك حنينها

نفسي فأنت لها قسيم

ذكري لعهدك كالعرا

ر سرى فبرّح بالسّليم

مهما ذممت فما زما

ني في ذمامك بالذميم

زمن كمألوف الرضا

ع يشوق ذكراه الفطيم

أيام أعقد ناظري

في ذلك المرأى الوسيم

وأرى الفتوّة غضّة

في ثوب أوّاه حليم

الله يعلم أنّ حب

بك من فؤادي في الصميم

ولئن تحمّل عنك لي

جسم فعن قلب مقيم (٥)

قل لي بأيّ خلال سر

ك فيك أفتن أو أهيم

ألمجدك العمم الذي

نسق الحديث مع القديم

أم ظرفك الغضّ الجنى

أم عرضك الصافي الأديم (٦)

__________________

(١) ديوان ابن خفاجة ص ٣٦٣.

(٢) إنسان العين : بؤبؤها.

(٣) ديوان ابن زيدون ص ٢٠١.

(٤) عيل الصبر : نفد ، وطفح الكيل به.

(٥) تحمّل عنه : ارتحل. وأراد أن قلبه مقيم وإن ارتحل جسده.

(٦) الأديم : الجلد

٩٤

أم برّك العذب الجما

م وبشرك الغضّ الجميم (١)

إن أشمست تلك الطلا

قة فالندى منها مغيم

أم بالبدائع كاللآ

لي من نثير أو نظيم

لبلاغة إن عدّ أه

لوها فأنت بها زعيم

فقر تسوغ بها المدا

م إذا يكرّرها النديم

إنّ الذي قسم الحظو

ظ حباك بالخلق العظيم

لا أستزيد الله نع

مى فيك لا بل أستديم

فلقد أقرّ العين أن

ك غرّة الزمن البهيم

حسبي الثناء بحسن برّ

ك ما بدا برق وشيم (٢)

ثم الدعاء بأن ته

نّأ طول عيشك في نعيم

ثم السلام تبلّغن

ه فغيب مهديه سليم

ولما ورد إشبيلية نزل بدار الوزير الكاتب ذي الوزارتين أبي عامر بن مسلمة وهو يبني مجلسا ، فصنع أبياتا كتبت فيه (٣) : [السريع]

عمّر ، من يعمر ذا المجلسا

أطول عمر ، يبهج الأنفسا

وبعد ذا عوّض من داره

عدنا ومن ديباجه السّندسا

ولقّي النور بها والرضا

ووقّي الأسواء والأبؤسا

ودام عبّاد لعضد الهدى

يحرس حتى يفني الأحرسا

معتضد بالله إحسانه

جمّ إذا ما الدهر يوما أسا (٤)

الملك الغمر الندى المقتني

من كلّ حمد علقه الأنفسا

إن رام يوما وصف عليائه

مفوّه مقتدر أخرسا

لا زال بدرا طالعا نيّرا

يكشف عن آمالنا الحندسا (٥)

__________________

(١) في ه : «ونشرك الغضّ الجحيم».

(٢) شام البرق : نظر إليه. وشيم : مبني للمجهول من شام.

(٣) ديوان ابن زيدون ص ٢٢٧.

(٤) أسا : أصلها أساء حذف الهمزة لضرورة القافية.

(٥) تحندس الرجل : ضعف وسقط. وتحندس الليل : أظلم. وفيها كناية.

٩٥

وقال فيه أيضا (١) : [المتقارب]

أدرها فقد حسن المجلس

وقد آن أن تترع الأكؤس

ولا تنس أنّ أوان الربيع

إذا لم تجد فقده الأنفس

فإنّ خلال أبي عامر

بها يحقر الورد والنرجس

وكتب إلى الوزير أبي المعالي المهلب بن عامر يستدعيه (٢) : [السريع]

طابت لنا ليلتنا الخاليه

فلنتبعنها هذه الثانيه

أبا المعالي ، نحن في راحة

فانقل إلينا القدم العاليه

لأنها عاطلة إن تغب

عنّا فزرنا كي ترى حاليه

أنت الذي لو تشترى ساعة

منه بدهر لم تكن غاليه

كتب إليه ذو الوزارتين أبو عامر المذكور معاتبا : [الوافر]

تباعدنا على قرب الجوار

كأنّا صدّنا شطّ المزار (٣)

تطلّع لي هلال الهجر بدرا

وصار هلال وصلك في سرار

وشاع شنيع قطعك لي بوصلي

فهلّا كان ذلك في استتار

أيجمل أن ترى عنّي صبورا

فأصبح مولعا دون اصطبار

وكنت أزيد سمعك من عتابي

ولكن عاقني فرط الخمار

فراع مودّتي واحفظ جواري

فإنّ الله أوصى بالجوار

وزرني منعما من غير أمر

وآنس موحشا من عقر داري

فكتب إليه ابن زيدون (٤) : [الوافر]

هواي وإن تناءت عنك داري

كمثل هواي في حال الجوار

مقيم لا تغيّره عواد

تباعد بين أحيان المزار (٥)

__________________

(١) ديوان ابن زيدون ص ٢٢٨.

(٢) ديوان ابن زيدون ص ٢٢٨.

(٣) في ب ، ه : «كأنا صدنا شحط المزار». وشط المزار : بعده.

(٤) ديوان ابن زيدون ص ٢٠٥.

(٥) أحيان المزار : أراد : تباعد بين أوقات الزيارات.

٩٦

رأيتك قلت إنّ الهجر بدر

متى خلت البدور من السرار

ورابك أنني جلد صبور

وكم صبر يكون عن اصطبار

ولم أهجر لعتب ، غير أني

أضرّت بي معاقرة العقار

وإنّ الخمر ليس لها خمار

يبرّح بي فكيف مع الخمار

وهل أنسى لديك نعيم عيش

كوشي الخدّ طرّز بالعذار

وساعات يجول اللهو فيها

مجال الظل في حدق النهار (١)

وإن يك فرّ عنك اليوم جسمي

فديت فما لقلبي من فرار

وكنت على البعاد أجلّ شيء

لديّ فكيف إذ أصبحت جاري

وكان أبو العطّاف إذ ورد إشبيلية رسولا قد سأله أن يريه شيئا من شعره ، فمطله به ، حتى كتب إليه شعرا يستبطئه ، فأجابه ابن زيدون في العروض والقافية (٢) : [المنسرح]

أفدتني من نفائس الدّرر

ما أبرزته غوائص الفكر

من لفظة قارنت نظائرها

قران سقم الجفون للحور

وهي أكثر ممّا ذكر.

وكتب رحمه الله تعالى ـ أعني ذا الوزارتين ابن زيدون ـ إلى ولّادة (٣) : [البسيط]

أضحى التّنائي بديلا من تدانينا

وناب عن طيب دنيانا تجافينا

ألّا وقد حان صبح الليل صبّحنا

حين فقام بنا للحين ناعينا (٤)

من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم

حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا

أنّ الزمان الذي ما زال يضحكنا

أنسا بقربهم قد عاد يبكينا

غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا

بأن نغصّ فقال الدهر آمينا

فانحلّ ما كان معقودا بأنفسنا

وانبتّ ما كان موصولا بأيدينا

بالأمس كنّا وما يخشى تفرّقنا

واليوم نحن وما يرجى تلاقينا (٥)

يا ليت شعري ولم نعتب أعاديكم

هل نال حظّا من العتبى أعادينا

__________________

(١) في ب : «مجال الطلّ في حدق البهار».

(٢) ديوان ابن زيدون ص ٢٠٦.

(٣) ديوان ابن زيدون ص ١٢١.

(٤) كذا في أ، ب. وفي ج ، ه «ألا وقد قام».

(٥) في ه ، وفي الديوان «وقد نكون وما يخشى تفرقنا.

٩٧

لم نعتقد بعدكم إلّا الوفاء لكم

رأيا ولم نتقلّد غيره دينا

كنّا نرى اليأس تسلينا عوارضه

وقد يئسنا فما لليأس يغرينا

بنتم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا

شوقا إليكم ولا جفّت مآقينا

نكاد حين تناجيكم ضمائرنا

يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا

حالت لفقدكم أيامنا فغدت

سودا وكانت بكم بيضا ليالينا

إذ جانب العيش طلق من تألّفنا

ومورد اللهو صاف من تصافينا

وإذ هصرنا فنون الوصل دانية

قطوفها فجنينا منه ماشينا (١)

ليسق عهدكم عهد السرور فما

كنتم لأرواحنا إلّا رياحينا

لا تحسبوا نأيكم عنّا يغيّرنا

إن طال ما غيّر النأي المحبّينا

والله ما طلبت أهواؤنا بدلا

منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا

يا ساري البرق غاد القصر فاسق به

من كان صرف الهوى والودّ يسقينا

واسأل هنالك هل عنّى تذكّرنا

إلفا تذكّره أمسى يعنّينا (٢)

ويا نسيم الصّبا بلّغ تحيّتنا

من لو على البعد حيّا كان يحيينا

من لا يرى الدهر يقضينا مساعفة

فيه وإن لم يكن عنّا يقاضينا

من بيت ملك كأنّ الله أنشأه

مسكا وقد أنشأ الله الورى طينا (٣)

أو صاغه ورقا محضا وتوّجه

من ناصع التّبر إبداعا وتحسينا

إذا تأوّد آدته رفاهية

توم العقود وأدمته البرى لينا (٤)

كانت له الشمس ظئرا في تكلّله

بل ما تجلّى لها إلّا أحايينا (٥)

كأنما أثبتت في صحن وجنته

زهر الكواكب تعويذا وتزيينا

ما ضرّ أن لم نكن أكفاءه شرفا

وفي المودّة كاف من تكافينا

__________________

(١) هصر الغصن : أماله. وماشينا : ما شئنا.

(٢) يعنّينا : يتعبنا.

(٣) في الديوان «ربيب ملك كأن الله أنشأه».

(٤) تأود : تثنى. وآدته : أثقلته وأعجزته. وتوم العقود : فاعل آد. وأدمته : أسالت دمه. والبرى : الخلاخيل ، واحدها برة. ووقع في ب : «إذا تأوّد أدته ... تدمى العقول» محرفا.

(٥) الظئر : المرضعة ولدها.

٩٨

يا روضة طالما أجنت لواحظنا

وردا جلاه الصّبا غضّا ونسرينا

ويا حياة تملّينا بزهرتها

منى ضروبا ولذّات أفانينا (١)

ويا نعيما خطرنا من غضارته

في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا

لسنا نسقيك إجلالا وتكرمة

وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا

إذا انفردت وما شوركت في صفة

فحسبنا الوصف إيضاحا وتبيينا

يا جنّة الخلد أبدلنا بسلسلها

والكوثر العذب زقّوما وغسلينا (٢)

كأننا لم نبت والوصل ثالثنا

والسعد قد غضّ من أجفان واشينا

سرّان في خاطر الظّلماء تكتمنا

حتى يكاد لسان الصبح يفشينا

لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت

عنه النّهى وتركنا الصبر ناسينا

إنّا قرأنا الأسى يوم النوى سورا

مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا

أمّا هواك فلم نعدل بمشربه

شربا وإن كان يروينا فيظمينا

لم نجف أفق جمال أنت كوكبه

سالين عنه ولم نهجره قالينا (٣)

ولا اختيارا تجنّبناك عن كثب

لكن عدتنا على كره عوادينا

نأسى عليك إذا حثّت مشعشعة

فينا الشّمول وغنّانا مغنينا

لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا

سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا

دومي على العهد ما دمنا محافظة

فالحرّ من دان إنصافا كما دينا

فما استعضنا خليلا عنك يحبسنا

ولا استفدنا حبيبا عنك يغنينا (٤)

ولو صبا نحونا من أفق مطلعه

بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا

أبلي وفاء وإن لم تبذلي صلة

فالطيف يقنعنا والذكر يكفينا

وفي الجواب متاع لو شفعت به

بيض الأيادي التي ما زلت تولينا

__________________

(١) أفانينا : جمع جمع لفنون أي أنواع.

(٢) الزّقوم : شجرة مرة كريهة الرائحة ، ثمرها طعام أهل النار ، وهو كل طعام يقتل. والغسلين : ما يسيل من جلود أهل النار من القيح وغيره.

(٣) قالين : مبغضين ، كارهين.

(٤) في ج : «حبيبا منك يغنينا» وفي الديوان «حبيبا عنك يثنينا».

٩٩

عليك مني سلام الله ما بقيت

صبابة بك نخفيها وتخفينا (١)

وإنما ذكرت هذه القصيدة ـ مع طولها ـ لبراعتها ؛ ولأن كثيرا من الناس لا يذكر جملتها ، ويظنّ أنّ ما في القلائد وغيرها منها هو جميعها ، وليس كذلك ، فهي وإن اشتهرت بالمشرق والمغرب لم يذكر جملتها إلّا القليل ، وقد كنت وقفت بالمغرب على تسديس لها لبعض علماء المغرب ، ولم يحضرني منه الآن إلّا قوله في المطلع : [البسيط]

ما للعيون بسهم الغنج تصمينا

وعن قطاف جنى الأعطاف تحمينا (٢)

تألّف كان يحيينا ويضنينا

تفرّق عاث في شمل المحبّينا

أضحى التنائي بديلا من تدانينا

وناب عن طيب دنيانا تجافينا

ما أحسن قوله في هذا التسديس : [البسيط]

ما للأحبّة دانوا بالنوى ورأوا

تعريض عهد اللقا بالبعد حين نأوا

رعاهم الله كانوا للعهود رعوا

فغيّرتهم وشاة بالفساد سعوا

غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا

بأن نغصّ فقال الدهر آمينا

وقد ذكرنا في الباب الرابع موشحة ابن الوكيل التي وطّأ فيها لنونية ابن زيدون هذه فلتراجع.

رجع : وقال ذو الوزارتين ابن زيدون يتغزّل (٣) : [مجزوء الرمل]

وضح الصبح المبين

وجلا الشكّ اليقين

ورأى الأعداء ما غر

رتهم منك الظنون

أمّلوا ما ليس يمنى

ورجوا ما لا يكون

وتمنّوا أن يخون ال

عبد مولى لا يخون

فإذا الغيب سليم

وإذا العهد مصون

قل لمن دان بهجري

وهواني إذ يدين

أرخص الحبّ فؤادي

لك والعلق ثمين

__________________

(١) الصبابة : رقة الحب.

(٢) تصمينا : تصطادنا.

(٣) ديوان ابن زيدون ص ١٧٦.

١٠٠